سورة الحجر - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجر)


        


{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)}.
التفسير:
تعرض هذه الآيات قصة خلق آدم، وكيف خلقه اللّه سبحانه وتعالى من طين، ثم نفخ فيه الحق جلّ وعلا من روحه، ثم أمر الملائكة بأن يسجدوا له، فسجدوا إلّا إبليس، فقد أبى أن يسجد، فلعنه اللّه وطرده.. ثم تذكر الآيات موقف إبليس من ربه سبحانه وتعالى، وتحدّيه لآدم وذريته، بإغوائهم، وإفسادهم، وخروجهم عن طاعة اللّه، ثم طلبه إلى اللّه سبحانه أن يؤخره إلى يوم القيامة، حتى تتاح له الفرصة في أبناء آدم.. وقد أجابه اللّه سبحانه وتعالى إلى ذلك، وحذّر أبناء آدم منه، ونههم إلى هذا العدو المتربص بهم.
وقد وردت هذه القصة في أكثر من موضع من القرآن، شأنها في هذا شأن القصص القرآنى، الذي جاء في معارض مختلفة، بين الإيجاز والتفصيل.
وفى سورة البقرة عرضنا بالتفصيل لقصة خلق آدم، وقلنا إنه لم يخلق خلقا مباشرا من التراب، وإنما كان خلقه خلقة في سلسلة التطور.. وأنه إذا كان الطين مبدأ للخلق، فإنه قد تنقل في هذا الطين من عالم إلى عالم، ومن خلق إلى خلق، حتى كان الإنسان آخر حلقة في سلسلة هذا التطور، فظهر فيها الكائن العاقل.. وهو آدم، أو الإنسان.
ولا نعيد هذا القول، وحسبنا أن نقف بين يدى الآيات الكريمة وقفات نطلع فيها وجها من وجوه الإعجاز القرآنى في التكرار لمعارض قصصه، والذي حسبه بعض الجهلاء السفهاء من المآخذ التي تؤخذ على القرآن، وعدّوه قصورا في بلاغته.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ..}.
فى هاتين الآيتين عرض موجز لخلق آدم، وخلق الجانّ (إبليس)، وبيان المادة التي خلق كلّ من آدم وإبليس منها.
فآدم، خلق من صلصال من حمأ مسنون.
والصلصال: الطين الذي جفّ حتى صار له صوت وصلصلة.
والحمأ: الطين المتعفن. وهو الذي تخمّر في ظروف معينة، وبدأ يأخذ بحكم هذا التخمر صورا وأشكالا، ولهذا وصف بالمسنون أي المسوّى والمشكل في أشكال وقوالب.
وقد ورد في آيات من القرآن الكريم، أن آدم خلق من تراب، ومن طين، ومن طين لازب.
وهذا يشير إلى أن التراب، هو المادة الأولى التي كان منها هذا الخلق.
ثم تحول التراب إلى طين، ثم تحول هذا الطين إلى طين لازب، أي زبد، ثم تحول هذا الطين اللازب إلى حمأ، ثم أخذ هذا الحمأ صورا وأشكالا فكان حمأ مسنونا.. ثم تحول هذا الحمأ المسنون إلى صلصال كالفخار.. وهكذا سار الإنسان في هذا المسار الطويل عبر ملايين السنين، حتى ظهرت أول بشائر الحياة الإنسانية في باكورة إنسان.. هو آدم! أما الجانّ فقد خلق قبل آدم، وكان خلقه من نار السموم.. أي من لهب النار لا من جمرها.. فكان جسما هوائيا ملتهبا، مشوبا بدخان.
وقد ذكر في القرآن الكريم، الجنّ، وإبليس، والشيطان، وكلها تعنى هذا المخلوق الذي أمره اللّه بالسجود لآدم، فأبى واستكبر وكان من الكافرين.
وقد عرضنا لبحث هذه المسميات- الجن وإبليس والشيطان- في الجزء الأول من هذا التفسير.. فليرجع إليها من شاء.
{وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ}.
هنا يحدّث القرآن عن أن اللّه سبحانه وتعالى قد آذن للملائكة قبل خلق آدم، وقبل ميلاده المنتظر في سلسلة التطور، آذنهم- سبحانه- بأن ينتظروا ميلاد هذا الكائن، وأن يسجدوا له ساعة مولده، سجود ولاء للّه، وتمجيد لقدرته وحكمته إذ يشهدون هذا الطين يتحرك في أحشاء الزمن، فيتمخض عن كائنات عجيبة.. ثم يلد أعجب مولود، هو هذا الإنسان، الذي ينطق، ويعقل، ويكون خليفة اللّه في الأرض، ويقف بين يديه الملائكة موقف التلاميذ من أستاذهم، يتعلمون منه ما لم يكونوا يعلمون.
فالسجود لآدم في حقيقته، سجود للّه سبحانه، في مواجهة هذه الظاهرة العجيبة، التي تتجلى فيها قدرة اللّه، وتطلع منها على الملائكة آية من آياته.
وفى قوله تعالى: {فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} إشارة إلى أن آدم لم يظهر من الطين ظهورا مباشرا، وإنما ظل دهورا طويلة في بوتقة الزمن، حتى استوى ونضح.. فالفاء في قوله تعالى: {فَإِذا سَوَّيْتُهُ} تفيد التعقيب، ولكنه تعقيب يأخذ من عمر الزمن ملايين السنين.. {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}.
وفى قوله تعالى: {فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ} إشارة إلى كيفية السجود، وأنه سجود لا يملك معه الملائكة أنفسهم، بل يخرون ساقطين على وجوههم، حين يأخذهم جلال الموقف، وتغشاهم رهبته.
والفعل {قعوا} هو أمر من الفعل وقع والأمر منه قع فإذا أسند إلى واو الجماعة كان: قعوا.
أي اسقطوا وخرّوا.
هذا، وقد جاء أمر اللّه سبحانه وتعالى إلى الملائكة بالسجود لآدم في موضع آخر، فقال تعالى: {إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ.. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ} [71- 72: ص].
وهذا يشير إلى أن اللّه سبحانه وتعالى، قد لفت الملائكة أول الأمر إلى المرحلة الأولى من مراحل هذا الخلق الذي سيخرج من هذا الكائن البشرى.
وأن أول هذه المراحل، هى الطين.. وقد أخذ الملائكة منذ هذه اللفتة، يرقبون هذا الطين، ويلحظون مسيرته في خط الحياة.
ثم حين انتقل الطين إلى مرحلة أخرى، هى مرحلة الصلصال، والحمأ المسنون- لفت سبحانه وتعالى الملائكة مرة أخرى إلى هذا التغيير الذي حدث للطين، والذي بدأ يأخذ طريقه متحركا نحو الغاية المؤدية إلى ظهور هذا الإنسان الذي ستلده الحياة المتولدة من هذا الطين، والذي يجب على الملائكة أن يستقبلوا مولده بالسجود فإن السجود لهذا المولود هو سجود لآيات اللّه، وما تجلى فيها من رائع حكمته وقدرته.
ويلاحظ أن هذين الأمرين الموجهين توجيها مباشرا إلى الملائكة بالسجود لآدم، يتضمنان الصفة التي يكون عليها هذا السجود، وهو أن يكون سجودا مستوليا على كيان الملائكة، بحيث يخرون خرّا، ويتهاوون هويّا: {فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ}.
إبليس ومن له سلطان عليهم:
{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ..}.
وإنها لجرأة عجيبة أن يخرج هذا المخلوق الشقىّ عن أمر ربه، وأن يتحدّى اللّه سبحانه وتعالى هذا التحدّى الوقاح السافر.. ولكن تلك هى مشيئة اللّه في هذا المخلوق الشقىّ التعس.. وقد أراده- سبحانه- ليكون، الظلام الذي يواجه النور، والشرّ الذي يقابل الخير.. وبهذا تتمايز الأمور، وتنكشف حقائق الأشياء.. إذ لولا الظلام ما عرف النور، ولولا الشرّ ما استبان الخير.. وهكذا كل ضدّ يكشف عن ضده.. وبضدّها تتميز الأشياء!: {قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}.
وإنها لشقوة غالبا، وبلاء مبين، وضلال تعمى معه البصائر، وتذهب العقول.
يسأله الحق جلّ وعلا، {ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}؟ وذلك ليأخذ اعترافه من فمه، وإلّا فاللّه سبحانه عالم بما سيقول هذا الشقىّ، مستغن عن أن يسأل، وعن أن ينطق إبليس بما نطق به.
ولقد نطق إبليس بهذا التحدّى لوقاح، {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}.
وفى آية أخرى كشف إبليس عن حجته الضّالة في إبائه السجود لآدم، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}! (12: الأعراف).
ومن أين لهذا اللّعين أن النار خير من الطين؟ وما وجه الخيريّة في النّار؟
إنه الضلال، ولا شيء غيره، هو الذي زيّن لهذا الغوىّ رأيه في نفسه.. واللّه سبحانه وتعالى يقول في أهل الغواية وال ضلال: {كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [32: الروم].
: {قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ}.
ذلك هو جزاء الظالمين.. الطرد من رحمة اللّه، واللعنة المصاحبة لهم إلى يوم القيامة، حيث يلقون العذاب الأليم المعدّ لهم.
والرجيم هو المرجوم.. وما يرجم به هنا هو اللعنة.
والضمير في قوله تعالى {مِنْها} يعود إلى الجنة التي كان فيها.
: {قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}.
وهكذا يعمى الضلال أهله، ويلقى بهم في ظلمات المهالك، فلا يخرجون من مهلكة إلا إلى مهلكة.
فلقد أبت على إبليس شقوته إلّا أن يشرب كأس اللعنة إلى آخر قطرة فيها.. فطلب إلى ربه أن يمدّ له في أجله، وألا يعجّل له العذاب قبل يوم القيامة، وذلك ليثأر لنفسه من هذا الإنسان الذي كان سببا مباشرا في طرده من رحمة اللّه، وإلباسه لباس اللعنة.. بل وربما حدّثت هذا الشقىّ نفسه أن يتحدى اللّه، وأن يحاجّه في آدم، وفى أنه أفضل منه، وأن امتناعه عن السجود له، كان عن حق، وأنه خير من هذا المخلوق، وما كان للأعلى أن يسجد للأدنى!! هكذا يبلغ الغرور بهذا الأحمق المغرور، فيقيم نظره كله على آدم، ولا ينظر إلى اللّه سبحانه، ولا يقع في تصوره أن اللّه سبحانه هو الذي أمره بالسجود، وأنه ينبغى للمخلوق أن يمتثل أمر الخالق، دون مراجعة أو اعتراض! ولو كان هذا اللعين قد نظر إلى نفسه، ولم يعمه الحقد الأعمى- لكان له في باب الرجاء عند اللّه متسع، ولكان طلبه من اللّه أن يؤخره إلى يوم الدين، التماسا للعافية من هذا البلاء الذي نزل به، فيرجع إلى اللّه من قريب، ويستغفر لذنبه، فيجد ربّا غفورا يقبل توبة التائبين، ويكفر عنهم من سيئاتهم.
ولكنه أبى إلا أن يهلك نفسه، في سبيل إهلاك غيره، وإشباع شهوة الانتقام من عدوّه.
: {قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}.
الإغواء: الإضلال، بتزيين القبيح، والإغراء به.
وبهذا القسم يتحدى إبليس أبناء آدم، ويلقاهم على طرق الضلال، فيغويهم بركوبها، ويغريهم بمتابعة خطوه عليها، ويمنّيهم الأمانىّ الكاذبة التي تلقى بهم بين يديه! فالباء في قوله تعالى: {بِما أَغْوَيْتَنِي} هى باء القسم، والتقدير: يحق ما أغويتنى: أي أضللتنى {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} أي لأفتننهم بما على الأرض من أشياء، أزينها لهم، وأغريهم بها، فيشغلون عن ذكرك، ويكفرون بنعمك، فيقعون تحت طائلة نقمتك وعذابك.
وهذا القسم يكشف عنه قوله تعالى في موضع آخر: {قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [82: ص].
ويجوز أن تكون الباء للسببية، أي بسبب إغوائك لى، وأن تكون اللام في قوله تعالى: {لَأُزَيِّنَنَّ} لام الأمر، الداخلة على الفعل المضارع، وأن إبليس قد ألزم نفسه بهذا العمل إلزاما، ليردّ به على هذا الإغواء.
وفى قصر التزين على الأرض، إشارة صريحة إلى أن إبليس قد أغوى آدم وزين له حتى أكل من الشجرة، وهو على هذه الأرض، وفى هذا دليل على أن ميلاد آدم كان على هذه الأرض، ولم يكن في السماء.
وفى قوله تعالى: {إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} استثناء من هذا الوعيد الذي توعد به إبليس أبناء آدم.. فهو يعرف أن للّه سبحانه وتعالى في أبناء آدم أصفياء، أحلصهم لنفسه، واصطفاهم لطاعته، وأرادهم لجنته.. وهؤلاء لا سبيل لإبليس عليهم.. فقد سبقه قضاء اللّه فيهم، وأنهم من أهل جنته ورضوانه.
والمخلص: هو الخالص من كل سوء، المصفّى من كل شائبة.
أما من يتسط عليهم إبليس، ويتمكن من النّيل منهم، فهم أولئك الذين لم يرد للّه أن يطهر قلوبهم، ولا أن يهديهم طريقا إلا طريق جهنم.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [41: المائدة].
{قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ}.
الإشارة في قوله تعالى: {هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} هى إشارة إلى الصراط المستقيم، وهو الصراط الذي يسلكه السالكون إلى اللّه، ممن رضى اللّه عنهم، كما يقول سبحانه: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
فهذا الصراط هو الذي يسلكه عباد اللّه لمخلصون، وليس لإبليس سلطان على أحد ممن سلك هذا السبيل، واستقام على هذا الصراط.. لأن اللّه سبحانه وتعالى قد أوجب على نفسه حراسة المستقيمين عليه، من كيد الشيطان وإغوائه.
ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ}.
فهؤلاء هم عباد اللّه المخلصون، وقد أضافهم سبحانه إلى نفسه، وأظلهم بحمايته ورعايته، وحرسهم من كل شيطان رجيم.
ويقوّى هذا المعنى قراءة من قرأ: {هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} أي هذا صراط عال لا يناله إبليس بكيده ومكره، وهو صراط اللّه، الذي دعا عباده إليه.
وقوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ}.
هو استثناء من قوله تعالى: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ}.
وفى إضافة الناس جميعا إلى اللّه سبحانه، هكذا: {عبادى} في هذا إشارة إلى أن الإنسان- أي إنسان- يحمل في فطرته ما يستطيع أن يدفع به كيد الشيطان، فلا ينال منه.. هكذا هم عباد اللّه، وهم الناس جميعا.. ولكن من عباد اللّه من يعمل على إفساد فطرته، فيعطى الشيطان فرصته فيه.. وبهذا يكون من الغاوين، الذين أغواهم الشيطان، فاستجابوا له، وكانوا جندا من جنده الضالين الغاوين.
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} الضمير في قوله تعالى: {لَمَوْعِدُهُمْ} يعود إلى الغاوين، الذين ذكرهم سبحانه في قوله: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ}.
فهؤلاء الغاوون الضالّون، من كافرين، ومشركين، ومنافقين، وكل من عبد غير اللّه، أو اتخذ مع اللّه شريكا- هؤلاء جميعا يلتقون عند جهنم، فهذا هو الموعد الذي يلتقون عنده.. فكما كان التقاؤهم في الدنيا على الضلال والكفر، كذلك يكون التقاؤهم في الآخرة على أبواب جهنم وعذاب السعير.
وفى قوله تعالى: {لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} إشارة إلى أن جهنم دركات ومنازل، عددها سبعة.. وأن أصناف الضالين يصنّفون حسب درجات ضلالهم إلى سبعة أصناف، كل صنف منهم ينزل منزلة من منازل جهنم السبعة، ويدخل إلى مكانه فيها من الباب الذي يؤدى به إلى هذا المكان.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ} وإذا كان أولياء الشيطان قد نزلوا هذا المنزل لدّون، يلقون فيه ما يلقون من عذاب وهوان- فإن أولياء الرحمن، وعباده الّذين لم يكن للشيطان سبيل إليهم- هؤلاء موعدهم جنات النعيم، حيث العيون التي تغذّى هذه الجنّة، وتفجّر الحياة فيها.. فالعيون يحقّها دائما الشجر، والظل، والثمر.
وفى قوله تعالى {ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ} تحية طيبة، يؤذن بها للمؤمنين بدخول الجنة، على مسمع من أهل النار، فيزيد شقاؤهم، وتعظم مصيبتهم.
وفى العدول من الغيبة إلى الخطاب احتفاء بالمؤمنين، واستدعاء لهم من قبل اللّه سبحانه، ليسمعوا هذا الأمر المسعد لهم من ربّ العالمين:
{ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ}.
ادخلوها إخوانا متحابين.
وقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ} إشارة إلى الحياة التي يحياها أهل الجنة، وأنها حياة أمن، وسلام، وراحة.. فلا عمل إلا ذكر اللّه، والتسبيح بحمده، والشكر لنعمه.. ومن تمام هذا النعيم أن الذي فيه لا يتهدده خوف من أن يفارقه هذا النعيم أبدا، أو يفارق هو هذا النعيم.
بل هو نعيم دائم متصل {خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ}.
{نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ.}.
الخطاب هنا للنبى صلوات اللّه وسلامه عليه- وهو خطاب لعباد اللّه جميعا، وبلاغ لهم كلهم، بأنهم عباد اللّه، وأن ربّهم الذي خلقهم وأضافهم إليه، هو رب غفور رحيم.. مغفرته شاملة، ورحمته عامة، تسع كل شىء.
وكذلك هو سبحانه- مع رحمته- ذو عذاب أليم، لمن كفر به، وأعطى ولاءه لغيره، أو لمن طمع في رحمته، ولم يرع حرماته، مجترئا عليه، مضيفا آثامه وذنوبه إلى رحمة اللّه ومغفرته.. فذلك مخادعة للّه، ومكر بآياته.
فمن آمن بمغفرة اللّه الشاملة، ورحمته الواسعة، آمن به ربّا كريما رحيما، محسنا، وكان ذلك داعيا إلى حبّ اللّه وطاعته، لا إلى عصيانه ومحاربته..!
فالحال التي ينبغى أن يكون عليها العبد مع ربّه هى الطمع في رحمته، والخوف من عذابه.
فالطمع يحرسه من اليأس إذا هو واقع إثما، أو ارتكب معصية.. والخوف يحرسه من أن يأتى الفواحش، أو يترخّص فيها، ولا يتأثم عند ما يضعف أمام هواه، فيقع في المنكر.
وقد امتدح اللّه المؤمنين الذين يخشون ربّهم بالغيب، والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة من ألا يقبل منهم ذلك الإيتاء.. وفى هذا يقول تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ} [60- 61: المؤمنون].
وقد روى عن بعض الصالحين أنه كان يقول: لو أنزل اللّه كتابا أنه معذّب رجلا واحدا لخفت أن أكونه، أو أنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه، ولو علمت أنّه معذّبى لا محالة، ما ازددت إلا اجتهادا، لئلا أرجع على نفسى بلائمة.
ذلك هو ما يمليه العقل السليم، وما توحى به الفطرة، التي لم تفسدها الأهواء وتغتالها الضلالات.


{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)}.
التفسير:
فى هذه الآيات، شرح لقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ}.
ففى هذه الآيات نفحات من رحمة اللّه ومغفرته.. وفيها لفحات من بأسه وعذابه.. رحمته ومغفرته التي تحفّ بالمتقين من عباده، وبأسه وعذابه الذي يحلّ بالضالّين الذين يتخذون الشيطان وليّا من دون اللّه.
وفى قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ} تذكير بقصّة إبراهيم عليه السلام، إذ جاءه ملائكة الرحمن على هيئة بشرية، فظنهم ضيفا نزل عليه، وإذ كانوا قد دخلوا عليه فجأة من غير استئذان، فإنه وجد في نفسه وحشة منهم وإنكارا لهم.. فقال فيما بينه وبين نفسه: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ!} كما ذكر ذلك في موضع آخر من القرآن الكريم.. وهنا يقول لهم فيما بينه وبين نفسه أيضا:
{إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي خائفون.
وفى قوله تعالى: {قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} إشارة إلى أن الملائكة قد وجدوا دلائل الخوف وأمارات النّكر تظهر على إبراهيم، فقالوا له: {لا توجل}.
وهذا الموقف شبيه بالموقف الذي كان من الملائكة حين دخلوا على داود، ففزع منهم، فقالوا له.. لا تخف، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ.. قالُوا لا تَخَفْ} [21- 22: ص].
وفى قولهم: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} تعجيل بهذه البشرى، لكى يطمئن قلبه إليهم، وتأنس نفسه بهم، وكى يذهب هذا الخبر العجيب بهذا الخوف الذي دخل عليه فجأة.
وقوله تعالى: {قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}.
؟
إنكار من إبراهيم لهذه البشرى بالولد أن يجيئه، وقد بلغ من الكبر حدّا انقطع فيه الأمل من الولد، وانصرفت الرغبة عنده عن طلبه، إذ فات الأوان الذي تهفو فيه النفس إلى الولد، ويشتد الطلب له.
وكان جواب الملائكة: {قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ} وكان هذا الجواب تصحيحا لمشاعر إبراهيم نحو الولد، وأنه إذا لم يكن هو الذي يطلب الولد بعد هذا العمر الذي بلغه، فإن إرادة اللّه هى التي جاءت بهذا الولد في هذا الوقت، وفى هذه المرحلة من العمر.. وذلك هو الحقّ الذي لا بدّ أن يقع.. ومن ثمّ كان وقوعه في هذا الوقت هو أنسب الأوقات، حسب تقدير اللّه، وكان تأخيره إلى هذا الوقت لحكمة يعلمها اللّه، وإن خفيت على إبراهيم، وغاب عنه ماوراءها من خير.
وقوله تعالى: {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ}.
القنوط: هو اليأس من أمر محبوب منتظر طال انتظاره، حتى فات وقته.. وقد كان ذلك النصح من الملائكة لإبراهيم، إلفاتا له إلى ما للّه سبحانه من حكمة، في تقدير الأمور، وتوقيت الأحداث، وأنه إذا كان لإنسان مطلب خاص عند اللّه، فليس له أن يوقّت له، وأنه إذا وقّت له، ثم لم يقع في وقته فليس له أن ييأس من إجابة طلبه.. فإلى اللّه سبحانه وتعالى تقدير الأمور وتوقيتها.. وإن اليأس من تحقيق المطلوب بعد فوات الوقت الذي وقّته له- فيه انقطاع الرجاء من اللّه، وصرف الوجه عنه.. وهذا ما لا ينبغى من مؤمن يؤمن باللّه، ويعرف للّه قدره.. ولهذا جاء جواب إبراهيم: {قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} تقريرا لهذه الحقيقة، وأنه عليه السلام لم يكن قانطا من رحمة اللّه، ولكنه كان متعجبا دهشا لهذا الأمر الذي طلع عليه فجاءة بولد غير منتظر! وهنا سؤال هو: كيف يقع من إبراهيم هذا الدّهش الذي يبلغ حدّ الإنكار من أن يكون له ولد، وهو الذي كان له ولد وهو إسماعيل عليه السلام، لذى سبق مولده مولد إسحاق؟
والجواب على هذا، أن إبراهيم كان ينتظر الولد من امرأته سارة، وأنه إذ طال انتظاره حتى مسّه الكبر، وبلغت سارة سنّ اليأس الذي لا يولد فيه لمثلها- اتجه إلى أن ينجب الولد من امرأة غيرها، فكان له من زوجته هاجر ولده إسماعيل، الذي انتقل به وأمّه إلى البيت الحرام، وأسكنه وأمّه هناك حيث المكان الذي هو مكة الآن.
وإذ لم يكن لإبراهيم غير سارة التي يعيش معها، فإنه أنكر أن يكون له ولد منها، بعد أن وصلا إلى هذه المرحلة من العمر!
وسؤال آخر.. هو:
الوصف الذي وصف به الولد الذي بشّر به إبراهيم هنا من الملائكة هو أنه غلام {عليم} ثم ذكر هذا الوصف مرة أخرى في قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [28: الذاريات] على حين أن هناك وصفا آخر لولد بشّر به إبراهيم وهو أنه غلام {حليم} كما يقول سبحانه {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [100- 101: الصافات].
فما سرّ اختلاف الوصفين؟ وما دلالة هذا الاختلاف.؟
والجواب:
أولا: أن وصف الغلام بأنه غلام {عليم} هو وصف للولد الذي بشر به من الملائكة بعد اليأس، وهو إسحق عليه السلام.
وأما الوصف الذي وصف به الغلام بأنه غلام {حليم} فهو نصف لإسماعيل عليه السلام، وأنه لم يجىء بعد اليأس، وإنما جاء إجابة من اللّه سبحانه لدعوة إبراهيم إذ دعا ربّه، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}.
وهذا مقام غير المقام الذي استقبل فيه البشرى بإسحاق.. فهنا يدعو دعاء الراغب الطامع، وهناك ينكر إنكار اليائس الذي انقطع طمعه في الولد! وثانيا: أن الوصف الذي وصف به الغلام بأنه {حليم} والذي قلنا إنه وصف لإسماعيل- هذا الوصف، يشير إلى أن إسماعيل هو الذبيح، وأن صفة الحلم، هى الصفة التي تناسب الموقف الذي وقفه من أبيه حين قال له:
{يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى}؟ فكان جوابه:
{يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [102: الصافات].
وثالثا: يجىء بعد هذا الموقف بين إبراهيم وإسماعيل قوله تعالى: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [112: الصافات].
وفى هذا ما يقطع بأن الذبيح هو إسماعيل.
وسنعرض لهذا الموضوع في مبحث خاص إذا شاء اللّه، عند تفسير سورة الصّافات.
قوله تعالى: {قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ}.
الخطب: الأمر العظيم، والشأن الجلل.
وفى سؤال إبراهيم للملائكة عن شأنهم، وعن الأمر العظيم الذي جاءوا له ما يشير إلى أن ما جاء إليه الرسل لم يكن هو البشرى بالولد، وأن هذه البشرى لم تكن إلا تطمينا لإبراهيم، وإجلاء للروع الذي استولى عليه.
وأنه بعد أن ذهب روعه وأنس إلى هؤلاء الملائكة الكرام.. سألهم:
{فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ؟} فكان جوابهم: {إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ}.
وهؤلاء القوم، هم قوم لوط.. وقد استثنى منهم لوط وآله بقوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ}.
وهنا سؤال:
إذا كان هؤلاء الرسل من الملائكة، قد جاءوا لمهمة خاصة، وهى إهلاك قوم لوط، فلم عرّج الرسل على إبراهيم، ولم يذهبوا رأسا إلى لوط، وهو نبىّ مرسل كما أن إبراهيم نبىّ مرسل؟.
والجواب على هذا: هو أن لوطا عليه السلام كان من قوم إبراهيم، وممن استجاب لدعوته من دون قومه.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [26:
العنكبوت].
وقد خرج لوط من بين القوم، واتخذ له موطنا قريبا من إبراهيم، يدعو فيه إلى ربه، بدعوة إبراهيم.. وكانت القرية التي أوى إليها لوط قرية ظالمة فاسدة، وكان أهلها- فوق شركهم- يأتون فاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين. كما يقول اللّه تعالى على لسان لوط لهم: {وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [28- 29: العنكبوت] ولهذا فقد عجل اللّه لهم العذاب في الدنيا، ولم يعجله لقوم إبراهيم، إذ كان قوم إبراهيم مجتمعا كبيرا يضمّ أمة في إهلاكها قضاء على الحياة في رقعة كبيرة من الأرض، قبل أن يتسع العمران، فيكون هلاكها أشبه بالطوفان الذي ذهب بقوم نوح.. أما قوم لوط، فقد كانوا عضوا خبيثا في جسد هذا المجتمع الفاسد الذي يضم قوم إبراهيم، فكان من حكمة اللّه، بتر هذا العضو الخبيث، والإبقاء على هذا الجسد الفاسد يعانى من دائه، حتى يجىء من يطبّ له من رسل اللّه.
من ذرية إبراهيم..!
وعلى هذا، فإن مجىء الرسل إلى إبراهيم قبل ذهابهم إلى لوط، هو مما تقتضيه طبيعة الأمور، إذ كان لوط- وإن كان نبيا مرسلا- هو من قوم إبراهيم، ومن الذين تابعوه، فكان إعلام إبراهيم بما سينزل على لوط من بلاء، مما لا يغفل عنه أدب السماء.
ولهذا فإن إبراهيم- عليه السلام- حين تلقّى هذا النبأ من الملائكة، فزع وقال: {إِنَّ فِيها لُوطاً!!} [32: العنكبوت] وكان جواب الملائكة:
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها}.
ولم يقف إبراهيم عند هذا الحد، بل جعل يجادل الملائكة في هذا الأمر النازل بهؤلاء القوم، وفى ذلك يقول اللّه تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [74- 76: هود].


{فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}.
المرسلون، هم الملائكة، الذين كانوا مع إبراهيم منذ قليل.. وهنا تنتقل أحداث القصة من الموقف مع إبراهيم، إلى لوط.. عليهما السلام.
وكما وجد إبراهيم في نفسه من مفاجأة الملائكة له ما وجد من فزع وتخوّف- وجد لوط هذه المشاعر منهم، فقال: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}.
وفى هذا الموقف نجد فرقا بين إبراهيم ولوط.
فإبراهيم قال ما قال في همس، وتخافت، دون أن يجبه الضيف بما يسوؤهم، طاويا تلك المشاعر في صدره، ممسكا بها في كيانه،. فقال: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أما لوط فإنه لم يستطع أن يغالب هذا الشعور الموحش الذي استولى عليه من القوم، فواجههم بما وقع في نفسه منهم، وقال: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}.
ولهذا كان إبراهيم أهلا لهذا الوصف الكريم، الذي وصفه اللّه سبحانه وتعالى به في قوله سبحانه: {إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}.
ولعلّ مما يقوم للوط من عذر في مجابهة القوم بهذا القول هو ما رآه فيهم من ملاحة وحسن، مما يغرى قومه بهم، الأمر الذي يسوؤه أن يقع لمن ينزل في ضيافته.
وهنا سؤال أيضا.. وهو: لما ذا كان الحديث عن لوط في مجىء الرسل، إليه غير موجه إليه، بل كان موجها إلى آله.. هكذا: {ولمّا جاء آل لوط المرسلون}؟ ولم التزم القرآن هذا التعبير في كل مرة ورد فيها مجىء الرسل إلى لوط؟.
والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن لوطا عليه السلام كان هو وآل بيته.
غير امرأته- كلّ من آمنوا باللّه في القرية.. كما يقول سبحانه وتعالى: {فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [36: الذاريات].. وبهذا يكون لوط ومن آمن معه من آل بيته، هم كيان واحد سليم، في مجتمع هذه القرية الفاسدة، ومن هنا كان الحديث إلى لوط في هذا الجسد الذي يضمه ويضمّ أهله الذين آمنوا معه، والذين هم أشبه ببعض أعضائه!.
قوله تعالى: {قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ}.
الامتراء: الجدل في غير حق.
وهذا هو الردّ الذي واجه به الملائكة إنكار لوط لهم، فقد جاءوه ببشرى أشبه بتلك البشرى التي بشروا بها إبراهيم من قبله، حين بشروه بغلام عليم.
وفى قولهم: {بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} إضراب على تلك المشاعر التي وقعت في نفس لوط منهم، وأنهم ما جاءوا بما يخيفه ويؤذيه، بل جاءوا لنجدته، ولتصديق وعيده للقوم، الذين كانوا يستخفّون بما أنذرهم به من عذاب اللّه ونقمته.. أي إننا لم نجىء بما يخيفك، بل جئنا بالبلاء الذي كنت نتوعد به القوم فيمترون فيه، ويكذبون به.. فهذا هو ما جئناك به، وإنه للحقّ الذي كنت تتحدى به القوم وهم يكذبون ويسخرون: {وَإِنَّا لَصادِقُونَ} فيما نحدّثك به، فليفرخ روعك، وليطمئن قلبك.
قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}.
القطع من الليل: الجزء، والبقية الباقية منه.. والمراد به هنا، الجزء الأخير من الليل الذي يسبق الفجر.
وهكذا دبّر الملائكة الأمور مع {لوط}، وهو أن يسرى بأهله، أي يخرج بهم ليلا، من غير أن يشعر به القوم، وأن يكون هذا السّرى في آخر اللّيل، وذلك بعد أن تسكن الحياة في القرية، ويستغرق القوم في نوم عميق.. وأن يكون وراء أهله السّارين معه، وعلى أثرهم، كالراعى وراء قطيعه.
وفى قوله تعالى: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} إشارة إلى أن يقطعوا ما بينهم وبين القرية وأهلها من كل شعور يلفتهم إليها، ومن كل عاطفة تعطفهم نحوها.
وفى قوله تعالى: {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} إشارة إلى أن لوطا في مسراه هذا لا يعرف الوجهة التي سيأخذها في سيره، وإنما سيلهم ذلك من اللّه سبحانه، وسيأتيه الأمر بالاتجاه إلى الجهة التي أرادها اللّه سبحانه وتعالى له.
قوله تعالى: {وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ}.
أي أنهينا إليه ذكر الأمر، وأفضينا إليه بما فيه، وذلك عن طريق الوحى بوساطة هؤلاء الملائكة.. وهو أن {دابر هؤلاء القوم مقطوع مصبحين} أي مهلكهم هو الصبح، بحيث لا تبقى منهم باقية.
قوله تعالى: {وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ}.
لقد أدّى الملائكة مهمتهم مع لوط، وأفضوا إليه بما جاءوا به.. ولكن كان ذلك بعد أن جاءه قومه، حين علموا بهؤلاء الضيوف الذين نزلوا عنده، يريدون الفاحشة بهم، فأقبلوا إليه، وقد طارت قلوبهم فرحا واستبشارا، بهذا الصيد السمين، الذي وقع في الشرك! وقد دفعهم لوط عنهم، مستبشعا هذا الفعل المنكر في ذاته، ثم هو أشد استبشاعا وإنكارا له، في ضيوف نزلوا عنده.
قائلا: {إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي.. فَلا تَفْضَحُونِ.. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ..}.
وكان ردّهم عليه، هو ما حكاه اللّه سبحانه وتعالى عنهم في قوله: {قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ؟} أي ألم نحذّرك من أن تتعرض لنا، وأن تحول بيننا وبين أحد من الناس أيّا كانوا، سواء أكانوا من قومنا، أو من أي قوم آخرين؟ وهذا ما تشير إليه كلمة {العالمين} التي تشمل الناس جميعا من كل جنس، ومن كل أمة.
{قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ}.
وهكذا يدفع لوط هذا المنكر بكل ما يملك من قوى الدفع.. لقد عرض على هؤلاء القوم الضالّين بناته، ليتخذوا منهن زوجات لهم، وليكون لكل منهم زوجة من نساء قريتهم.
فذلك هو الذي ينبغى أن يكون من الرجال.
{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
هذه الآية الكريمة، جاءت معترضة في ثنايا أحداث القصة.. وفيها التفات إلى النبىّ الكريم محمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- ليرى صورة من صور الإنسانية الضالّة، التي يستبدّ بها الضلال، ويركبها التزق والطيش، فلا تستمع لرشد، ولا تستجيب لنصح.
وفى القسم بالنبيّ الكريم، تكريم له، واحتفاء بشخصه، وتمجيد لقدره، ورفع لمنزلته.. فما أقسم الحق سبحانه وتعالى بإنسان غير هذا الإنسان، وفى ذلك إشارة إلى أنه واحد الإنسانية والممثل لها.. فقد أقسم الحق سبحانه وتعالى بكثير من العوالم الأخرى، إذ كانت كلّها قائمة على ما خلقها الخالق- سبحانه- دون أن تنحرف قيد أنملة.. أما عالم البشر وحده، ففيه انحرافات لم يسلم منها إنسان، إلا أنها في رسل اللّه والمصطفين من عباده لا تعدو أن تكون ذبذبات خفيفة، لا تعكرّ صفوهم، ولا تميل بهم عن الصراط المستقيم.
ومحمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- كان في هذا أكملهم كمالا، وأصفاهم صفاء!! إنه الإنسان الذي تتمثل فيه الإنسانية كلها في أعلى منازلها، وأكرم صورتها.
والسّكرة: ما يعترى الإنسان من ذهاب عقله، بمعاطاة خمر أو نحوها، مما يذهب بالعقل.
والعمه: العمى والضلال.
قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ}.
الضمير في أخذتهم، يعود إلى قوم لوط، ومشرقين أي عند الشّروق.. شروق الشمس.. والصيحة، هى العذاب الذي أهلكوا به.
قوله تعالى: {فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} هو بيان لآثار هذه الصيحة، وأنها قلبت القرية، فجعلت أعلاها أسفلها، أي أنها أتت على بنيانها، فجعلته أرضا.. ثم تبع ذلك مطر من حجارة موسومة، معّدة ومحمّلة بالمهلكات.
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}.
المتوسّمون هم الذين يستدّلون على حقائق الأشياء بالسّمات الظاهرة أو الخفية منها.. وهذا لا يكون إلا عن نظر متفحّص، وبصيرة نافذة.
وهذا المصير الذي صارت إليه قرية لوط وأهلها، قد خلّف وراءه كومات من تراب.. فمن رآها بنظر غافل، وعقل شارد، لم ير إلا التراب المهيل، ومن تفحص فيما وراء هذا التراب، رأى ما يجنى الضلال على أهله، وما يخلف الهوى من شؤم وبلاء وراءه.
قوله تعالى: {وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ}.
أي إن هذه القرية لا تزال من مخلفات الدمار والهلاك.. قائمة حيث كانت، يراها كل من يمر بها في هذه المواطن.
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي في هذه المخلفات آية لمن كان مستعدا للإيمان، حين تلوح له دلائل الحق، وتبدو له شواهده.
ومن إعجاز القرآن هنا ما نجده في اختلاف النظم بين فاصلتى الآيتين في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} وفى قوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}.
ومن أسرار هذا الاختلاف:
أولا: أن المتوسّمين- وهم كما قلنا- أصحاب البصر الحديد والبصيرة النافذة- تتكشف لهم من ظواهر الأشياء أمور لا تتكشف لغيرهم من سائر الناس.
فهم يرون آيات، على حين يرى غيرهم آية.. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} وذلك فيما تحدّث به أخبار القوم الظالمين.
وثانيا: أن المؤمنين، أو من في كيانهم استعداد للإيمان- هؤلاء، لا يحتاجون إلى كثير من الأدلة والبراهين، حتى يذعنوا للحق، ويهتدوا إلى الإيمان، وإنما تكفيهم الإشارة الدالّة، أو اللمحة البارقة، حتى يكونوا على طريق الإيمان.. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}.
وذلك فيما تحدث به مخلّفات هؤلاء القوم الهالكين.
وثالثا: أن الإيمان أمره هيّن، ومراده قريب.. وأن القاصد إليه، الباحث عنه، لا يحتاج إلى معاناة نظر، أو كدّ ذهن، وكل ما يحتاج إليه في تلك الحال، هو أن يخلى نفسه من التشبث، والعناد، والمكابرة، وأن يلقى وجه الإيمان بقلب سليم، ورأى مستقيم.. عندئذ يرى أن الإيمان أقرب شيء إليه، وآلف حقيقة عنده.. إذ كان جاريا مع الفطرة الإنسانية، متجاوبا مع أشواقها وتطلعاتها.
هذا، وقد جاء النظم القرآنى لقصّة لوط هنا، مخالفا لما جاء عليه في مواضع أخرى.. ذلك أن الملائكة هنا أخبروه بهلاك القوم، وبما ينبغى أن يفعله هو وأهله حتى لا ينزل بهم ما ينزل بأهل القرية من دمار وهلاك- أخبروه بهذا قبل أن يعلم أهل القرية بهم، وقبل أن يجيئوا إلى لوط يريدون الفاحشة في هؤلاء الضيوف.. هكذا تحدث الآيات هنا.
وفى مواضع أخرى جاء النظم القرآنى على غير هذا، كما يقول اللّه تعالى في سورة {هود} مثلا: {وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} (الآيات: 77- 81: هود) وترتيب الأحداث هنا غير ترتيبها في النظم السابق.. كما ترى.
فما جواب هذا؟
والجواب- واللّه أعلم- هو أن الملائكة في هذه الآيات- قد ألقوا بالبشرى إلى لوط، حين التقوا به، ورأوا ما دخل عليه منهم من خوف وفزع، فقالوا له: {لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ}.
ثم جاءه قومه بعد ذلك، وكان ما كان منهم معه ومع الملائكة.. فكان من لوط كرب وضيق مما حلّ بالملائكة، وتشبث قومه بهم، ومحاولة الاعتداء عليهم، فكان حديث الملائكة له بقولهم: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} توكيدا لما حدّثوه به من قبل، وأنهم إذا كانوا على تلك الصفة فلن ينالهم أحد بمكروه.. ثم كان من تمام ذلك أن أعادوا تذكيره بما حدثوه به من قبل، وهو أن يسرى بأهله بقطع من الليل ولا يلتفت منهم أحد إلى هؤلاء القوم الذين خلفوهم وراءهم ليلاقوا مصيرهم.

1 | 2 | 3